
محمد العمراني
بات مؤكدا أن الملك محمد السادس عندما تحدث عن ضرورة التصدي للاختلالات الخطيرة التي تعتري أداء الإدارة المغربية، وأن تغيير الأوضاع اليوم أصبح يفرض المزيد من الصرامة، للقطع مع التهاون والتلاعب بمصالح المواطنين، حتى لو اقتضى الأمر إحداث زلزال سياسي، كان يعي جيدا ما يقوله…
فبعد التشخيص الصادم الذي قدمه ملك البلاد حول حقيقة الأوضاع التي بات يعيشها المغاربة، وتفاقم الاختلالات على جميع المستويات، وتفشي مظاهر الفساد والمحسوبية، وانعدام الإحساس بالمسؤولية، كان لا بد من اتخاذ القرارات اللازمة لتقويم هاته الاعوجاجات..
وهو ما كشف عنه بصريح العبارة عندما قال جلالته في خطاب افتتاح الدورة التشريعية للبرلمان يوم 13 أكتوبر المنصرم:
“وبصفتنا الضامن لدولة القانون، والساهر على احترامه، وأول من يطبقه، فإننا لم نتردد يوما، في محاسبة كل من ثبت في حقه أي تقصير، في القيام بمسؤوليته المهنية أو الوطنية”.
لم يتأخر الزلزال الملكي كثيرا، فيما كل المؤشرات تؤكد أن توابعه قادمة لا محالة، وربما بقوة ارتدادية أعنف..
إن البلاغ الصادر عن الديوان الملكي يوم 11 دجنبر الجاري، والذي كشف عن اتخاذ قرارات تأديبية في حق 180 رجل سلطة، بمختلف رتبهم ومسؤولياتهم، من والي إلى خليفة قائد، مرورا بالعمال والكتاب العامين، ورؤساء الدوائر والباشوات، والقواد، تراوحت بين التوقيف مع الإحالة على المجالس التأديبية والتوبيخ، يعتبر من دون شك حدثا استثنائيا بكل المقاييس، ويجب استخلاص ما يتوجب عنه من رسائل، ستسعفنا ولا شك في استقراء ما سيأتي من قرارات..
جميعنا يعرف الدور المحوري لوزارة الداخلية، والوضعية الخاصة التي ظل يتمتع بها رجال السلطة، لأسباب تاريخية وموضوعية، ليس المجال هنا لتفصيلها، وهو ما كان يمنحهم نوعا من الحصانة، ويبعدهم عن شبح المساءلة، ولذلك فإن الزلزال الذي أصاب وزارة والداخلية، بقدر ما كان غير متوقع، بقدر ما أكد أن بلادنا خطت خطوة غير مسبوقة وجريئة نحو تنزيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة..
هناك إجماع أو يكاد لدى المغاربة، أن علاقتهم بالإدارة الترابية وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من التنافر وفقدان الثقة..
فساد،
محسوبية،
انعدام للمسؤولية،
سوء تعامل…
كلها مظاهر تختزل الصورة التي ترسخت في عقول المواطنين عن رجال السلطة، وهي مؤشرات على درجة كبيرة من الخطورة، بالنظر للدور المحوري والأساسي الذي تلعبه الإدارة الترابية في حياة المواطنين…
طبعا يجب علينا الاعتراف بأن الإدارة الترابية بها العشرات من المسؤولين يتصفون بالنزاهة والكفاءة ونظافة اليد، لكن هذا لا ينفي أن الانتقادات الحادة التي توجه للإدارة الترابية من طرف عموم المواطنين.
وحتى نستوعب بشكل أوضح المهام الملقاة على رجل السلطة، لا بد من إعادة استحضار ما قاله الملك محمد السادس يوم 12 أكتوبر 1999 في خطاب تاريخي، كان قد ألقاه أسابيع قليلة على تسلمه مقاليد الحكم:
” ونريد في هذه المناسبة أن نعرض لمفهوم جديد لسلطة وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية وتدبير الشأن المحلي والمحافظة على السلم الاجتماعي. وهي مسؤولية لا يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم و ملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة..”.
فأين نحن اليوم من هذا المفهوم؟..
أين هي رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية؟..
أين هو الحرص على تدبير الشأن الملحي والمحافظة على السلم الاجتماعي؟..
أين هي مكاتب رجال السلطة التي يجب أن تظل مفتوحة في وجه المواطنين؟..
أين هو الاحتكاك المباشر بالمواطنين، وملامسة مشاكلهم على الميدان؟..
الزلزال الذي ضرب وزارة الداخلية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك، أن الوضعية التي آل إليها المغرب لم تعد تحتمل المزيد من الإستهتار بمصالح المواطنين، والإفلات من العقاب، ومراكمة الأرصدة..
فلم يعد من خيار أمام الدولة اليوم إلا التنزيل الصارم لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وبالتالي فإن العقوبات التي طالت رجال الإدارة الترابية يجب أن يصبح نهجا راسخا للدولة، مثلما يجب تعميمه على جميع القطاعات والمسؤوليات بدون استثناء، حتى لا يتوسع الرتق عن الراتق، وحتى لا ينزلق البلد نحو المجهول…