
منذ الرسالة الملكية الموجهة إلى الحكومة من أجل تسريع عملية مراجعة مدونة الأسرة، وفق التوجيهات التي أعلنها الملك في خطاب عيد العرش السنة الماضية، بدأت تظهر بوادر نقاش محتدم بين التوجهات المختلفة إديولوجيا وفكريا حول ماهية الإصلاحات المرتقبة وسقفها. وتتجه الأنظار نحو الصف الحداثي الذي يمني النفس بتحقيق اختراق كبير في النص القائم، والدفع نحو المساواة والتغيير في نظام الإرث وعدد من الأمور التي يعتبرها المحافظون “قطعيات غير قابلة للمراجعة”.
ويظهر أن السياق الذي جاءت فيه التوجيهات الملكية للحكومة، التي لم تنجز شيئا في الموضوع بعد مرور سنة على التعليمات الملكية الواردة في خطاب العرش 2022، سيفرض موضوع مدونة الأسرة على الدخول السياسي المرتقب، ما من شأنه أن يغطي على مختلف القضايا الأخرى.
ولا يبدو أن الأحزاب السياسية، خاصة المصطفة في المعارضة، ستفوت الفرصة دون إثارة النقاش وجره نحو القضايا التي تخدم توجهاتها وتصورها للمجتمع، وهو الأمر الذي يتوقع أن يفجر جدلا لا محدودا، ويجعل إصلاح مدونة الأسرة وتفاصيله موضوع “مزايدات وفرصة لربح بعض النقاط”.
وهبي وبنكيران ولشكر
في تعليقه على الموضوع، يرى محمد العمراني بوخبزة، الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي، أن نص المدونة بدون شك “سيحظى باهتمام كبير، وسيكون محط نقاش وجدل ومزايدات، لأن طبيعته تفرض ذلك”، مذكرا بأنه “النص الوحيد الذي أحدث شرخا داخل المجتمع المغربي، لأنه يتعلق بإصلاح المدونة”.
من هذا المنطلق، يقول بوخبزة، إنه “يجب الأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص وخصوصيته، وكذلك الأهداف من وراء إعادة النظر في مجموعة من مضامينه”، وتابع: “هناك أشخاص قد يضفون عليه طابعا خاصا، فيزيدوا من حدة النقاش المجتمعي حوله، ما قد يخرج النص من دائرة المراد من التعديل”.
وزاد المتحدث ذاته أن وجود وزير العدل عبد اللطيف وهبي ضمن اللجنة المشرفة على إصلاح المدونة “قد يثير الكثير من عدم الرضا لدى اتجاهات كثيرة داخل المجتمع المغربي، خاصة أن مواقفه معروفة نوعا ما في بعض الأمور، كالعلاقات الرضائية وغيرها”.
وأشار المحلل السياسي ذاته إلى أن شخصا مثل عبد الإله بنكيران “قد يدخل كطرف آخر على خط النقاش، وقد يكون لتصريحاته ومواقفه وقع، ويزيد من صب الزيت على النار”، مردفا: “من هذا المنطلق، هناك أشخاص قد يضفون طابع الجدل والحدة في النقاش، الذي من المفروض أن يكون رزينا ولا يساهم فيه إلا الحكماء، لأن الأمر يتعلق بنص استثنائي له خصوصيته”.
وأضاف المتحدث أن “النص لا ينبغي أن يخرج عن سياق الرغبة في المساهمة في إقامة مجتمع متوازن، لأنه النص الوحيد الذي ينظم أهم مؤسسة داخل المجتمع، وهي مؤسسة الأسرة، ويهتم بالرجل والمرأة والطفل، كما يهتم بالعلاقات القائمة بين هؤلاء، ليس فقط ما بين الأب والأم والأبناء، بل يمتد إلى باقي مكونات الأسرة المغربية، لأن هناك جزءا متعلقا بالإرث قد يمتد إلى أفراد آخرين من الأسرة”.
من هذا المنطلق، يؤكد بوخبزة أن “النقاش يجب أن يكون مؤسساتيا، وألا يخرج عن هذا الإطار”، وواصل: “ما نخشاه هو تدخل أشخاص كالكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي، لأن له مواقف بخصوص الإرث ويطالب بالمساواة، وهذا ربما قد يزيد من تعقيد الأمر”.
أما على مستوى المؤسسات فأورد الأستاذ ذاته: “قد نجد أنفسنا أمام صعوبات، فمثلا موقف المجلس الوطني لحقوق الإنسان من بعض القضايا المرتبطة بالعلاقات الرضائية قد يكون له تأثير، لكن وجود بعض المؤسسات الأخرى، التي لها قوتها وحضورها ودورها في هذا المجال، كالمجلس العلمي الأعلى على سبيل المثال، قد يساهم في خلق نوع من التوازن بين مختلف وجهات النظر المتعلقة بالقضايا الخلافية، التي تحتاج في آخر المطاف إلى تحكيم ملكي”.
وأشار المتحدث إلى أن هناك “أطرافا كثيرة قد تجر النقاش نحو المواجهة والصراع”، مضيفا أنه “في جميع الأحوال سيكون النص توافقيا، والتوافق يحتاج إلى تنازلات متبادلة وعدم التشبث بشكل جامد بالمواقف، لأن هذا النص ليس قابلا لأن يعتمد بالإجماع، بل هو نص توافقي”، وختم قائلا: “تعديل مدونة الأسرة يحتاج إلى بعد نظر، وأن يتم ربط هذا النص بنصوص أخرى، وأن يكون الهدف ليس النص في حد ذاته، بل مسائل أخرى يرجى تحقيقها من خلال إعادة النظر في مضمونه”.
العارف والجاهل
من جهتها، اعتبرت الناشطة الحقوقية سعيدة الإدريسي أن “الحركة النسائية اعتادت النضال من أجل الحقوق في سياق مشحون بالصراع والجدل، الذي يساهم فيه العارف والجاهل”، مضيفة أن “الكل أصبح يدلي برأيه، خصوصا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي”.
وأضافت الإدريسي في تصريح لهسبريس: “عندما تطالب النساء بحقوقهن المشروعة التي ينص عليها الدستور، وليس خارج التشريع الوطني، يظهر الجدال والمزايدات السياسية”، مؤكدة أن “النقاش مهم، لكنه يصبح بعيدا عن حوار من أجل الوصول إلى حل، وفرصة لإنتاج الكراهية تجاه النساء من طرف بعض المحسوبين على الفقهاء أو المفكرين، وهذا مؤلم حقيقة”، وفق تعبيرها.
وتابعت الحقوقية ذاتها بأن “النساء لما يطالبن بحقوقهن وبالمساواة في الإرث يدفع البعض بأن الأسرة سيصيبها الخلل، بينما لا يناقشون أن الخلل مصدره البطالة والفقر وانتشار المخدرات”، وفقها.
وشددت المتحدثة ذاتها على أن “تمتيع النساء بحقوقهن وواجباتهن وفق القانون وليس على حساب الطرف الآخر، بما يضمن المصلحة الفضلى للأطفال أساسا”، وأردفت: “نحن محظوظات كنساء لأن هناك إمارة المؤمنين في البلاد، والملك في خطاب العرش لسنة 2022 دعا إلى الاجتهاد في المسائل التي لا تتلاءم مع واقع النساء والأسر في الوقت الراهن، لتكون المدونة في مستوى التشريع المتقدم، وهو الدستور”.
كما اعتبرت الإدريسي أن “المرجعية الدستورية هي التي ينبغي أن تؤطر إصلاح المدونة، مع الانفتاح على هيئات المجتمع المدني من طرف اللجنة المكلفة بإعداد النص الجديد”، خاتمة: “الملف يحتاج إلى نقاش مؤطر وليس عبثيا. ونحن متفائلون لأن الكلمة الأخيرة ستكون للملك في الموضوع، لضمان تشريع متقدم يحكم فيه بالحق بعيدا عن النقاش والجدال العقيم الذي نتابعه”.