
يُعتبر مشروع النفق البحري بين المغرب وإسبانيا من المشاريع الطموحة التي راودت البلدين لعقود. تعود أولى الأفكار حول إنشاء معبر تحت مضيق جبل طارق إلى عام 1869، عندما اقترح المهندس لوران دو فيلدوميل تشييد رابط سككي يربط بين القارتين، ويمتد على مسافة 42 كيلومترًا، منها 28 كيلومترًا تحت البحر. لكن هذه الفكرة لم تبدأ في أخذ طابع مؤسسي إلا مع أواخر القرن العشرين.
تم الإعلان رسميًا عن المشروع عام 1979 بمبادرة مشتركة، حيث أُدرج ضمن اتفاقيات تهدف إلى إقامة رابط ثابت بين إفريقيا وأوروبا. وتم تشكيل لجنة مشتركة لمتابعة الدراسات اللازمة، إضافة إلى إنشاء شركات متخصصة لدراسة الجوانب الفنية والهندسية.
لا يحمل المشروع طابعًا سياسيًا فحسب، بل تحركه أيضًا اعتبارات اقتصادية واستراتيجية. فمن المتوقع أن يوفر هذا النفق وسيلة نقل أكثر كفاءة مقارنة بالعبارات البحرية وأقل تكلفة من الرحلات الجوية، مما يسهل حركة المسافرين والبضائع بين شمال إفريقيا وأوروبا. كما سيعزز التعاون الاقتصادي، خصوصًا في مجالات التجارة والسياحة، وسيساهم في تطوير المبادلات بين القارتين.
التطورات الأخيرة للمشروع
شهد المشروع خلال السنوات الأخيرة تطورات مهمة. ففي عام 2023، تم إعادة إحيائه بعد تحسن العلاقات الدبلوماسية. خلال اجتماع رفيع المستوى، أكدت الحكومتان عزمهما على المضي قدمًا في تنفيذ المشروع، وتم تخصيص ميزانيات جديدة لتحديث الدراسات التقنية. وفي أواخر 2024، تم اختيار شركة دولية لتنفيذ دراسة جدوى جديدة بتمويل قدره 296,400 يورو، ومن المتوقع أن تقدم نتائجها بحلول يونيو 2025.
تم تقدير تكلفة المشروع بحوالي 6 مليارات يورو، مع دراسة مسار النفق الذي سيمتد بين منطقة مالاباطا في طنجة المغربية وبونتا بالوما بالقرب من طريفة في الأندلس الإسبانية. ومن المتوقع أن يعبر النفق سنويًا أكثر من 12 مليون مسافر، إلى جانب نقل نحو 13 مليون طن من البضائع.
التحديات التقنية والتنفيذية
يمثل مضيق جبل طارق تحديًا هندسيًا كبيرًا بسبب طبيعته الجيولوجية المعقدة وعمقه الذي يصل في بعض المناطق إلى 900 متر، إضافة إلى النشاط الزلزالي الملحوظ. وقد أظهرت دراسات أن المشروع سيتطلب استخدام تقنيات مبتكرة لتجاوز هذه التحديات، مثل تقنيات الأنفاق المغمورة وتقنيات الحفر تحت البحر.
على الرغم من التحديات، فإن التقدم التكنولوجي يفتح آفاقًا جديدة لإنجاز المشروع. وتؤكد الخبرات العالمية أن التقنيات المتاحة اليوم قادرة على تحقيق هذا الإنجاز، كما حدث مع نفق المانش بين فرنسا وإنجلترا. وسيكون التحدي الأساسي هو اختيار أفضل الطرق التقنية لضمان تنفيذه بكفاءة وتكلفة مناسبة.
الأبعاد الجيوسياسية والاقتصادية
يتجاوز المشروع كونه مجرد بنية تحتية، ليصبح عنصرًا جيوسياسيًا يعكس مستوى التعاون بين البلدين. فقد شهد المشروع فترات من التوقف والتقدم تبعًا للعلاقات الثنائية، ويمثل اليوم رمزًا للتحالف المتجدد بين الجانبين. كما أن للمشروع تأثيرًا واسع النطاق على التعاون الأورو-متوسطي، حيث يُنظر إليه على أنه خطوة لتعزيز الربط بين أوروبا وإفريقيا.
يحظى المشروع بدعم العديد من القوى العالمية، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، والمملكة المتحدة، والصين، والولايات المتحدة، نظرًا لأثره المحتمل على التجارة الدولية. كما أبدت مؤسسات مالية كبرى استعدادها للمساهمة في تمويله، مثل البنك الدولي والبنك الإفريقي للتنمية.
التأثير على التجارة والنقل
من المتوقع أن يسهم النفق في تحول كبير في حركة النقل والتجارة بين القارتين. فحاليًا، تعتمد المبادلات التجارية على النقل البحري والجوي، لكن النفق سيوفر وسيلة نقل مستدامة وأكثر كفاءة، مما يعزز التدفقات التجارية ويقلل من التكاليف اللوجستية.
تشير التقديرات إلى أن النفق سيعزز دور المغرب كمحور لوجستي إقليمي، حيث سيمثل امتدادًا بريًا لميناء طنجة المتوسط، أحد أكبر الموانئ في إفريقيا. في المقابل، ستعزز إسبانيا موقعها كبوابة رئيسية للتجارة الأوروبية مع إفريقيا، مما يزيد من جاذبيتها للاستثمارات.
التوقعات المستقبلية
لا تزال هناك سيناريوهات متعددة لمستقبل المشروع، تتراوح بين التفاؤل بإمكانية إنجازه خلال العقود القادمة، وبين المخاوف من تحديات التمويل والتقنيات اللازمة. وستكون السنوات المقبلة حاسمة في تحديد مسار التنفيذ، خصوصًا مع استمرار الدراسات الفنية وتأمين التمويل المطلوب.
في النهاية، يمثل نفق المغرب-إسبانيا مشروعًا استراتيجيًا من شأنه أن يغير مشهد النقل والتجارة بين إفريقيا وأوروبا، ويعزز العلاقات الاقتصادية والسياسية بين البلدين، ليصبح واحدًا من أهم المشاريع الهندسية في القرن الحادي والعشرين.